فصل: تفسير الآية رقم (19)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق‏}‏ أو، لها خمسة معان‏:‏ الشك، والإبهام، والتخيير، والإباحة، والتفصيل‏.‏ وزاد الكوفيون أن تكون بمعنى الواو وبمعنى بل، وكان شيخنا أبو الحسن بن الصائغ يقول‏:‏ أو لأحد الشيئين أو الأشياء‏.‏ وقال السهيلي‏:‏ أو للدلالة على أحد الشيئين من غير تعيين، ولذلك وقعت في الخبر المشكوك فيه من حيث أن الشك تردد بين أمرين من غير ترجيح، لا أنها وضعت للشك، فقد تكون في الخبر، ولا شك إذا أبهمت على المخاطب‏.‏ وأما التي للتخيير فعلى أصلها لأن المخبر إنما يريد أحد الشيئين، وأما التي زعموا أنها للإباحة فلم تؤخذ الإباحة من لفظ أو ولا من معناها، إنما أخذت من صيغة الأمر مع قرائن الأحوال، وإنما دخلت لغلبة العادة في أن المشتغل بالفعل الواحد لا يشتغل بغيره، ولو جمع بين المباحين لم يعص، علماً بأن أو ليست معتمدة هنا‏.‏ الصيب‏:‏ المطر، يقال‏:‏ صاب يصوب فهو صيب إذا نزل والسحاب أيضاً، قال الشاعر‏:‏

حتى عفاها صيب ودقه *** داني النواحي مسبل هاطل

وقال الشماخ‏:‏

وأشحم دان صادق الرعد صيب *** ووزن صيب فيعل عند البصريين، وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين، إلا ما شذ في الصحيح من قولهم‏:‏ صيقل بكسر القاف علم لامرأة، وليس وزنه فعيلاً، خلافاً للفراء‏.‏ وقد نسب هذا المذهب للكوفيين وهي مسألة يتكلم عليها في علم التصريف‏.‏ وقد تقدم الكلام على تخفيف مثل هذا السماء‏:‏ كل ما علاك من سقف ونحوه، والسماء المعروفة ذات البروج، وأصلها الواو لأنها من السمو، ثم قد يكون بينها وبين المفرد تاء تأنيث‏.‏ قالوا‏:‏ سماوة، وتصح الواو إذ ذاك لأنها بنيت عليها الكلمة، قال العجاج‏:‏

طيّ الليالي زلفاً فزلفاً *** سماوة الهلال حتى احقوقفا

والسماء مؤنث، وقد يذكر، قال الشاعر‏:‏

فلو رفع السماء إليه قوماً *** لحقنا بالسماء مع السحاب

والجنس الذي ميز واحده بتاء، يؤنثه الحجازيون، ويذكره التميميون وأهل نجد، وجمعهم لها على سموات، وعلى اسمية، وعلى سماء‏.‏ قال‏:‏ فوق سبع سمائنا شاذ لأنه، أولاً‏:‏ اسم جنس فقياسه أن لا يجمع، وثانياً‏:‏ فجمعه بالألف والتاء ليس فيه شرط ما يجمع بهما قياساً، وجمعه على أفعله ليس مما ينقاس في المؤنث، وعلى فعائل لا ينقاس في فعال‏.‏

الرعد، قال ابن عباس، ومجاهد، وشهر بن حوشب، وعكرمة‏:‏ الرعد ملك يزجر السحاب بهذا الصوت، وقال بعضهم‏:‏ كلما خالفت سحابة صاح بها، والرعد اسمه‏.‏ وقال علي‏:‏ وعطاء، وطاوس، والخليل‏:‏ صوت ملك يزجر السحاب‏.‏ وروي هذا أيضاً عن ابن عباس، ومجاهد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أيضاً صوت ملك يسبح، وقيل‏:‏ ريح تختنق بين السماء والأرض‏.‏ وروي عن ابن عباس‏:‏ أنه ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت، وقيل‏:‏ اصطكاك الأجرام السحابية، وهو قول أرباب الهيئة‏.‏

والمعروف في اللغة‏:‏ أنه اسم الصوت المسموع، وقاله علي، قال بعضهم‏:‏ أكثر العلماء على أنه ملك، والمسموع صوته يسبح ويزجر السحاب، وقيل‏:‏ الرعد صوت تحريك أجنحة الملائكة الموكلين بزجر السحاب‏.‏ وتلخص من هذه النقول قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الرعد ملك، الثاني‏:‏ أنه صوت‏.‏ قالوا‏:‏ وسمي هذا الصوت رعداً لأنه يرعد سامعه، ومنه رعدت الفرائص، أي حركت وهزت كما تهزه الرعدة‏.‏ واتسع فيه فقيل‏:‏ أرعد، أي هدد وأوعد لأنه ينشأ عن الإيعاد‏.‏ والتهدد‏:‏ ارتعاد الموعد والمهدد‏.‏

البرق‏:‏ مخراف حديد بيد الملك يسوق به السحاب، قاله علي، أو أثر ضرب بذلك المخراف‏.‏ وروي عن علي‏:‏ أو سوط نور بيد الملك يزجرها به، قاله ابن عباس، أو ضرب ذلك السوط، قاله ابن الأنباري وعزاه إلى ابن عباس‏.‏ وروي نحوه عن مجاهد‏:‏ أو ملك يتراءى‏.‏ وروي عن ابن عباس أو الماء، قاله قوم منهم أبو الجلد جيلان بن فروة البصري، أو تلألؤ الماء، حكاه ابن فارس، أو نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب، قاله بعضهم‏.‏ والذي يفهم من اللغة‏:‏ أن الرعد عبارة عن هذا الصوت المزعج المسموع من جهة السماء، وأن البرق هو الجرم اللطيف النوراني الذي يشاهد ولا يثبت‏.‏

‏{‏يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله بالكافرين‏}‏ جعل‏:‏ يكون بمعنى خلق أو بمعنى ألقى فيتعدى لواحد، وبمعنى صبر أو سمى فيتعدى لاثنين، وللشروع في الفعل فتكون من أفعال المقاربة، تدخل على المبتدأ والخبر بالشروط المذكورة في بابها‏.‏ الأصبع‏:‏ مدلولها مفهوم، وهي مؤنثة، وذكروا فيها تسع لغات وهي‏:‏ الفتح للهمزة، وضمها، وكسرها مع كل من ذلك للباء‏.‏ وحكوا عاشرة وهي‏:‏ أصبوع، بضمها، وبعد الباء واو‏.‏ وجميع أسماء الأصابع مؤنثة إلا الإبهام، فإن بعض بني أسد يقولون‏:‏ هذا إبهام، والتأنيث أجود، وعليه العرب غير من ذكر‏.‏ الأذن‏:‏ مدلولها مفهوم، وهي مؤنثة، كذلك تلحقها التاء في التصغير قالوا‏:‏ أذينة، ولا تلحق في العدد، قالوا‏:‏ ثلاث آذان، قال أبو ثروان في أحجية له‏:‏

ما ذو ثلاث آذان *** يسبق الخيل بالرديان

يريد السهم وآذانه وقدده‏.‏ الصاعقة‏:‏ الوقعة الشديدة من صوت الرعد معها قطعة من نار تسقط مع صوت الرعد، قالوا‏:‏ تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه، وهي مع حدتها سريعة الخمود، ويهلك الله بها من يشاء‏.‏ قال لبيد يرثي أخاه أربد، وكان ممن أحرقته الصاعقة‏:‏

فجعني البرق والصواعق بالفارس يوم الكريهة النجد *** ويشبه بالمقتول بها من مات سريعاً، قال علقمة بن عبدة‏:‏

كأنهم صابت عليهم سحابة *** صواعقها لطيرهن دبيب

وروى الخليل عن قوم من العرب‏:‏ الساعقة بالسين، وقال النقاش‏:‏ صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد‏.‏

قال أبو عمرو‏:‏ الصاقعة لغة بني تميم، قال الشاعر‏:‏

ألم تر أن المجرمين أصابهم *** صواقع لا بل هن فوق الصواقع

وقال أبو النجم‏:‏

يحلون بالمقصورة القواطع *** تشقق البروق بالصواقع

فإذا كان ذلك لغة، وقد حكوا تصريف الكلمة عليه، لم يكن من باب المقلوب خلافاً لمن ذهب إلى ذلك، ونقل القلب عن جمهور أهل اللغة‏.‏ ويقال‏:‏ صعقته وأصعقته الصاعقة، إذا أهلكته، فصعق‏:‏ أي هلك‏.‏ والصاعقة أيضاً العذاب على أي حال كان، قاله ابن عرفة، والصاعقة والصاقعة‏:‏ إما أن تكون صفة لصوت الرعد أو للرعد، فتكون التاء للمبالغة نحو‏:‏ راوية وإما أن تكون مصدراً، كما قالوا في الكاذبة‏.‏ الحذر، والفزع، والفرق، والجزع، والخوف‏:‏ نظائر الموت، عرض يعقب الحياة‏.‏ وقيل‏:‏ فساد بنية الحيوان، وقيل‏:‏ زوال الحياة‏.‏ الإحاطة‏:‏ حصر الشيء بالمنع له من كل جهة، والثلاثي منه متعد، قالوا‏:‏ حاطه، يحوطه، حوطاً‏.‏

أو كصيب‏:‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏كمثل الذي استوقد‏}‏، وحذف مضافان، إذ التقدير‏:‏ أو‏:‏ كمثل ذوي صيب، نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كالذي يغشى عليه من الموت‏}‏ أي كدوران عين الذي يغشى عليه‏.‏ وأو هنا للتفصيل، وكان من نظر في حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد، ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب، ولا ضرورة تدعو إلى كون أو للتخيير‏.‏ وأن المعنى أيهما شئت مثلهم به، وإن كان الزجاج وغيره ذهب إليه، ولا إلى أن أو للإباحة، ولا إلى أنها بمعنى الواو، كما ذهب إليه الكوفيون هنا‏.‏ ولا إلى كون أو للشك بالنسبة للمخاطبين، إذ يستحيل وقوعه من الله تعالى، ولا إلى كونها بمعنى بل، ولا إلى كونها للإبهام، لأن التخيير والإباحة إنما يكونان في الأمر أو ما في معناه‏.‏ وهذه الجملة خبرية صرف‏.‏ ولأن أو بمعنى الواو، أو بمعنى بل، لم يثبت عند البصريين، وما استدل به مثبت ذلك مؤوّل، ولأن الشك بالنسبة إلى المخاطبين، أو الإبهام بالنسبة إليهم لا معنى له هنا، وإنما المعنى الظاهر فيها كونها للتفصيل‏.‏ وهذا التمثيل الثاني أتى كاشفاً لحالهم بعد كشف الأول‏.‏ وإنما قصد بذلك التفصيل والإسهاب بحال المنافق، وشبهه في التمثيل الأول بمستوقد النار، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع جدواه بذهاب النور‏.‏ وشبه في الثاني دين الإسلام بالصيب وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيبهم من الإفزاع والفتن من جهة المسلمين بالصواعق، وكلا التمثيلين من التمثيلات المفرقة، كما شرحناه‏.‏

والأحسن أن يكون من التمثيلات المركبة دون المفرقة، فلا تتكلف مقابلة شيء بشيء، وقد تقدم الإشارة إلى ذلك عند الكلام على التمثيل الأول، فوصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما حبطوا فيه من الحيرة والدهشة بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وبحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق، وإنما قدر كمثل ذوي صيب لعود الضمير في يجعلون‏.‏

والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدلّ على فرط الحيرة وشدة الأمر، ولذلك أخر فصار ارتقاء من الأهون إلى الأغلظ‏.‏ وقد رام بعض المفسرين ترتب أحوال المنافقين وموازنتها في المثل من الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق، فقال‏:‏ مثل الله القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال، وعما هم بالظلمات والوعيد والزجر بالرعد والنور والحجج الباهرة التي تكاد أحياناً أن تبهرهم بالبرق وتخوفهم بجعل أصابعهم، وفضح نفاقهم وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوها بالصواعق، وهذا قول من ذهب إلى أنه من التمثيل المفرق الذي يقابل منه شيء شيئاً من الممثل، وستأتي بقية الأقوال في ذلك، إن شاء الله تعالى‏.‏ وقرئ‏:‏ أو كصايب، وهو اسم فاعل من صاب يصوب وصيب، أبلغ من صايب، والكاف في موضع رفع لأنها معطوفة على ما موضعه رفع‏.‏ والجملة من قوله‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ إذا قلنا ليست جواب لما جملة اعتراض فصل بها بين المعطوف والمعطوف عليه، وكذلك أيضاً ‏{‏صم بكم عمي‏}‏ إذا قلنا إن ذلك من أوصاف المنافقين‏.‏ فعلى هذين القولين تكون الجملتان جملتي اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وقد منع ذلك أبو علي، وردّ عليه بقول الشاعر‏:‏

لعمرك والخطوب مغيرات *** وفي طول المعاشرة التقالي

لقد باليت مظعن أمّ أوفى *** ولكن أمّ أوفى لا تبالي

ففصل بين القسم وجوابه بجملتي الاعتراض‏.‏ من السماء متعلق بصيب فهو في موضع نصب ومن فيه لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون في موضع الصفة فتعلق بمحذوف، وتكون من إذ ذاك للتبعيض، ويكون على حذف مضاف التقدير، أو كمطر صيب من أمطار السماء، وأتى بالسماء معرفة إشارة إلى أن هذا الصيب نازل من آفاق السماء، فهو مطبق عام‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وفيه أن السحاب من السماء ينحدر، ومنها يأخذ ماءه، لا كزعم من زعم أنه يأخذه من البحر، ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وينزل من السماء من جبال فيها من برد‏}‏ انتهى كلامه‏.‏ وليس في الآيتين ما يدل على أنه لا يكون منشأ المطر من البحر، إنما تدل الآيتان على أن المطر ينزل من السماء، ولا يظهر تناف بين أن يكون المطر ينزل من السماء، وأن منشأه من البحر‏.‏ والعرب تسمي السحاب بنات بحر، يعني أنها تنشأ من البحار، قال طرفة‏:‏

لا تلمني إنها من نسوة *** رقد الصيف مقاليت نزر

كبنات البحر يمأدن كما *** أنبت الصيف عساليج الخضر

وقد أبدلوا الباء ميماً فقالوا‏:‏ بنات المحر، كما قالوا‏:‏ رأيته من كثب ومن كثم‏.‏ وظلمات‏:‏ مرتفع بالجار والمجرور على الفاعلية، لأنه قد اعتمد إذا وقع صفة، ويجوز أن تكون فيه من موضع الحال من النكرة المخصصة بقوله‏:‏ ‏{‏من السماء‏}‏، إما تخصيص العمل، وإما تخصيص الصفة على ما قدمناه من الوجهين في إعراب من السماء، وأجازوا أن يكون ظلمات مرفوعاً بالابتداء، وفيه في موضع الخبر‏.‏

والجملة في موضع الصفة، ولا حاجة إلى هذا لأنه إذا دار الأمر بين أن تكون الصفة من قبيل المفرد، وبين أن تكون من قبيل الجمل، كان الأولى جعلها من قبيل المفرد وجمع الظلمات، لأنه حصلت أنواع من الظلمة‏.‏ فإن كان الصيب هو المطر، فظلماته ظلمة تكاثفه وانتساجه وتتابع قطره، وظلمة‏:‏ ظلال غمامه مع ظلمة الليل‏.‏ وإن كان الصيب هو السحاب، فظلمة سجمته وظلمة تطبيقه مع ظلمة الليل‏.‏ والضمير في فيه عائد على الصيب، فإذا فسر بالمطر، فمكان ذلك السحاب، لكنه لما كان الرعد والبرق ملتبسين بالمطر جعلا فيه على طريق التجوّز، ولم يجمع الرعد والبرق، وإن كان قد جمعت في لسان العرب، لأن المراد بذلك المصدر كأنه قيل‏:‏ وإرعاد وإبراق، وإن أريد العينان فلأنهما لما كانا مصدرين في الأصل، إذ يقال‏:‏ رعدت السماء رعداً وبرقت برقاً، روعي حكم أصلهما وإن كان المعنى على الجمع، كما قالوا‏:‏ رجل خصم، ونكرت ظلمات ورعد وبرق، لأن المقصود ليس العموم، إنما المقصود اشتمال الصيب على ظلمات ورعد وبرق‏.‏

والضمير في يجعلون عائد على المضاف المحذوف للعلم به، لأنه إذا حذف، فتارة يلتفت إليه حتى كأنه ملفوظ به فتعود الضمائر عليه كحاله مذكوراً، وتارة يطرح فيعود الضمير الذي قام مقامه‏.‏ فمن الأول هذه الآية وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كظلمات في بحر لجِّيِّ يغشاه موج من فوقه‏}‏، التقدير، أو كذي ظلمات، ولذلك عاد الضمير المنصوب عليه في قوله‏:‏ يغشاه‏.‏ ومما اجتمع فيه الالتفات والاطراح قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون‏}‏ المعنى من أهل قرية فقال‏:‏ فجاءها، فأطرح المحذوف وقال‏:‏ أو هم، فالتفت إلى المحذوف‏.‏ والجملة من قوله‏:‏ يجعلون لا موضع لها من الإعراب، لأنها جواب سؤال مقدر، كأنه قيل‏:‏ فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد‏؟‏ فقيل‏:‏ يجعلون، وقيل‏:‏ الجملة لها موضع من الإعراب وهو الجر لأنها في موضع الصفة لذوي المحذوف، كأنه قيل‏:‏ جاعلين، وأجاز بعضهم أن تكون في موضع نصب على الحال من الضمير الذي هو الهاء في فيه‏.‏ والراجع على ذي الحال محذوف ثابت الألف واللام عنه التقدير من صواعقه‏.‏

وأراد بالأصابع بعضها، لأن الأصبع كلها لا تجعل في الأذن، إنما تجعل في الأنملة، لكن هذا من الاتساع، وهو إطلاق كل على بعض، ولأن هؤلاء لفرط ما يهولهم من إزعاج الصواعق كأنهم لا يكتفون بالأنملة، بل لو أمكنهم السد بالأصبع كلها لفعلوا، وعدل عن الإسم الخاص لما يوضع في الأذن إلى الاسم العام، وهو الأصبع، لما في ترك لفظ السبابة من حسن أدب القرآن، وكون الكنايات فيه تكون بأحسن لفظ، لذلك ما عدل عن لفظ السبابة إلى المسبحة والمهللة وغيرها من الألفاظ المستحسنة، ولم تأت بلفظ المسبحة ونحوها لأنها ألفاظ مستحدثة، لم يتعارفها الناس في ذلك العهد، وإنما أحدثت بعداً‏.‏

وقرأ الحسن‏:‏ من الصواقع، وقد تقدم أنها لغة تميم، وأخبرنا أنها ليست من المقلوب، والجعل هنا بمعنى الإلقاء والوضع كأنه قال‏:‏ يضعون أصابعهم، ومن تتعلق بقوله يجعلون، وهي سببية، أي من أجل الصواعق وحذر الموت مفعول من أجله، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه، إذ هو مصدر متحد بالعامل فاعلاً وزماناً، هكذا أعربوه، وفيه نظر لأن قوله‏:‏ من الصواعق هو في المعنى مفعول من أجله، ولو كان معطوفاً لجاز، كقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ابتغاء مرضات الله‏}‏ وتثبيتاً من أنفسهم، وقول الراجز‏:‏

يركب كل عاقر جمهور *** مخافة وزعل المحبور

والهول من تهول الهبور *** وقالوا أيضاً‏:‏ يجوز أن يكون مصدراً، أي يحذرون حذر الموت، وهو مضاف للمفعول‏.‏ وقرأ قتادة، والضحاك بن مزاحم، وابن أبي ليلى‏:‏ حذار الموت، وهو مصدر حاذر، قالوا وانتصابه على أنه مفعول له‏.‏

الإحاطة هنا‏:‏ كناية عن كونه تعالى لا يفوتونه، كما لا يفوت المحاط المحيط به، فقيل‏:‏ بالعلم وقيل‏:‏ بالقدرة، وقيل‏:‏ بالإهلاك‏.‏ وهذه الجملة اعتراضية لأنها دخلت بين هاتين الجملتين اللتين هما‏:‏ يجعلون أصابعهم، ‏{‏ويكاد البرق‏}‏ وهما من قصة واحدة‏.‏ وقد تقدم لنا أن هذا التمثيل من التمثيلات المركبة، وهو الذي تشبه فيه إحدى الجملتين بالأخرى في أمر من الأمور، وإن لم يكن آحاد إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملة الأخرى، فيكون المقصود تشبيه حيرة المنافقين في الدين والدنيا بحيرة من انطفأت نارة بعد إيقادها، وبحيرة من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق‏.‏ وهذا الذي سبق أنه المختار‏.‏ وقالوا‏:‏ أيضاً‏:‏ يكون من التشبيه المفرق، وهو أن يكون المثل مركباً من أمور، والممثل يكون مركباً أيضاً، وكل واحد من المثل مشبه لكل واحد من الممثل‏.‏

وقد تقدم قولان من جعل هذا المثل من التمثيل المفرق‏.‏ والثالث‏:‏ أن الصيب مثل للإسلام والظلمات، مثل لما في قلوبهم من النفاق والرعد والبرق، مثلان لما يخوفون به‏.‏ والرابع‏:‏ البرق مثل للإسلام والظلمات، مثل للفتنة والبلاء‏.‏ والخامس‏:‏ الصيب‏:‏ الغيث الذي فيه الحياة مثل للإسلام والظلمات، مثل لإسلام المنافقين وما فيه من إبطان الكفر، والرعد مثل لما في الإسلام من حقن الدماء والاختلاط بالمسلمين في المناكحة والموازنة، والبرق وما فيه من الصواعق مثل لما في الإسلام من الزجر بالعقاب في العاجل والآجل، ويروى معنى هذا عن الحسن‏.‏ والسادس‏:‏ أن الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق كانت حقيقة أصابت بعض اليهود، فضرب الله مثلاً بقصتهم لبقيتهم، وروي في ذلك حديث عن ابن مسعود، وابن عباس‏.‏ السابع‏:‏ أنه مثل ضربه الله للخير والشر الذي أصاب المنافقين، فكأنهم كانوا إذا كثرت أموالهم وولدهم الغلمان، أو أصابوا غنيمة أو فتحاً قالوا‏:‏ دين محمد صدق، فاستقاموا عليه، وإذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء قالوا‏:‏ هذا من أجل دين محمد، فارتدوا كفاراً‏.‏

الثامن‏:‏ أنه مثل الدنيا وما فيها من الشدة والرخاء والنعمة والبلاء بالصيب الذي يجمع نفعاً بإحيائه الأرض وإنباته النبات وإحياء كل دابة والانتفاع به للتطهير وغيره من المنافع، وضراً بما يحصل به من الإغراق والإشراق، وما تقدمه من الظلمات والصواعق بالإرعاد والإبراق، وأن المنافق يدفع آجلاً بطلب عاجل النفع، فيبيع آخرته وما أعد الله له فيها من النعيم بالدنيا التي صفوها كدر ومآله بعد إلى سقر‏.‏ التاسع‏:‏ أنه مثل للقيامة لما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم وما فيه من البرق، بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم، ومثل ما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل‏.‏ العاشر‏:‏ ضرب الصيب مثل لما أظهر المنافقون من الإيمان والظلمات بضلالهم وكفرهم الذي أبطنوه، وما فيه من البرق بما علاهم من خير الإسلام وعلتهم من بركته، واهتدائهم به إلى منافعهم الدنيوية، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وما فيه من الصواعق، بما اقتضاه نفاقهم وما هم صائرون إليه من الهلاك الدنيوي والأخروي‏.‏

وقد ذكروا أيضاً أقوالاً كلها ترجع إلى التمثيل التركيبي‏:‏ الأول‏:‏ شبه حال المنافقين بالذين اجتمعت لهم ظلمة السحاب مع هذه الأمور، فكان ذلك أشد لحيرتهم، إذ لا يرون طريقاً، ولا من أضاء له البرق ثم ذهب كانت الظلمة عنده أشد منها لو لم يكن فيها برق‏.‏ الثاني‏:‏ أن المطر، وإن كان نافعاً إلا أنه لما ظهر في هذه الصورة صار النفع به زائلاً، كذلك إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن، وأما مع عدم الموافق فهو ضر‏.‏ الثالث‏:‏ أنه مثل حال المنافقين في ظنهم أن ما أظهروه نافعهم وليس بنافعهم بمن نزلت به هذه الأمور مع الصواعق، فإنه يظن أن المخلص له منها جعل أصابعه في أذانه وهو لا ينجيه ذلك مما يريد الله به من موت أو غيره‏.‏ الرابع‏:‏ أنه مثل لتأخر المنافق عن الجهاد فراراً من الموت بمن أراد دفع هذه الأمور بجعل أصابعهم في آذانهم‏.‏ الخامس‏:‏ أنه مثل لعدم إخلاص المنافق من عذاب الله بالجاعلين أصابعهم في آذانهم، فإنهم وإن تخلصوا من الموت في تلك الساعة، فإن الموت من ورائهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

يكاد‏:‏ مضارع كاد التي هي من أفعال المقاربة، ووزنها فعل يفعل، نحو خاف يخاف، منقلبة عن واو، وفيها لغتان‏:‏ فعل كما ذكرناه، وفعل، ولذلك إذا اتصل بها ضمير الرفع لمتكلم أو مخاطب أو نون إناث ضموا الكاف فقالوا‏:‏ كدت، وكدت، وكدن، وسمع نقل كسر الواو إلى الكاف، مع ما إسناده لغير ما ذكر قول الشاعر‏:‏

وكيدت ضباع القف يأكلن جثتي *** وكيد خراش عند ذلك ييتم

يريد، وكادت، وكاد، وليس، من أفعال المقاربة ما يستعمل منها مضارع إلا‏:‏ كاد، وأوشك‏.‏ وهذه الأفعال هي من باب كان، ترفع الإسم وتنصب الخبر، إلا أن خبرها لا يكون إلا مضارعاً، ولها باب معقود في النحو، وهي نحو من ثلاثين فعلاً ذكرها أبو إسحاق البهاري في كتابه ‏(‏شرح جمل الزجاجي‏)‏‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ يكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي، وقد أنشدوا في ذلك شعراً يلغز فيه بها، وهذا الذي ذكر هذا المفسر هو مذهب أبي الفتح وغيره، والصحيح عند أصحابنا أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإيجابها إيجاب، والاحتجاج للمذهبين مذكور في كتب النحو‏.‏ الخطف‏:‏ أخذ الشيء بسرعة‏.‏ كل‏:‏ للعموم، وهو اسم جمع لازم للإضافة، إلا أن ما أضيف إليه يجوز حذفه ويعوض منه التنوين، وقيل‏:‏ هو تنوين الصرف، وإذا كان المحذوف معرفة بقيت كل على تعريفها بالإضافة، فيجيء منها الحال، ولا تعرف باللام عند الأكثرين، وأجاز ذلك الأخفش، والفارسي، وربما انتصب حالاً، والأصل فيها أن تتبع توكيداً كأجمع، وتستعمل مبتدأ، وكونها كذلك أحسن من كونها مفعولاً، وليس ذلك بمقصور على السماع ولا مختصاً بالشعر خلافاً لزاعمه‏.‏ وإذا أضيفت كل إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العوامل اللفظية، وإذا ابتدئ بها مضافة لفظاً إلى نكرة طابقت الأخبار وغيرها ما تضاف إليه وإلى معرفة، فالأفصح إفراد العائد أو معنى لا لفظاً، فالأصل، وقد يحسن الإفراد وأحكام كل كثيرة‏.‏ وقد ذكرنا أكثرها في كتابنا الكبير الذي سميناه بالتذكرة، وسردنا منها جملة لينتفع بها، فإنها تكررت في القرآن كثيراً‏.‏

المشي‏:‏ الحركة المعروفة‏.‏ لو‏:‏ عبارة سيبويه، إنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وهو أحسن من قول النحويين إنها حرف امتناع لامتناع لاطراد تفسير سيبويه، رحمه الله، في كل مكان جاءت فيه لو، وانخرام تفسيرهم في نحو‏:‏ لو كان هذا إنساناً لكان حيواناً، إذ على تفسير الإمام يكون المعنى ثبوت الحيوانية على تقدير ثبوت الإنسانية، إذ الأخص مستلزم الأعم، وعلى تفسيرهم ينخرم ذلك، إذ يكون المعنى ممتنع الحيوانية لأجل امتناع الإنسانية، وليس بصحيح، إذ لا يلزم من انتفاء الإنسانية انتفاء الحيوانية، إذ توجد الحيوانية ولا إنسانية‏.‏

وتكون لو أيضاً شرطاً في المستقبل بمعنى أن، ولا يجوز الجزم بها خلافاً لقوم، قال الشاعر‏:‏

لا يلفك الراجوك إلا مظهرا *** خلق الكرام ولو تكون عديماً

وتشرب لو معنى التمني، وسيأتي الكلام على ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلو أن لنا كرة فتبرأ منهم‏}‏ إن شاء الله تعالى، ولا تكون موصولة بمعنى أن خلافاً لزاعم ذلك‏.‏ شاء‏:‏ بمعنى أراد، وحذف مفعولها جائز لفهم المعنى، وأكثر ما يحذف مع لو، لدلالة الجواب عليه‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ولقد تكاثر هذا الحدف في شاء وأراد، يعني حذف مفعوليهما، قال‏:‏ لا يكادون يبرزون هذا المفعول إلا في الشيء المستغرب، نحو قوله‏:‏

فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته *** وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو أرادنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه‏}‏ و‏{‏لو راد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى‏}‏ انتهى كلامه‏.‏ قال صاحب التبيان، وذلك بعد أن أنشد قوله‏:‏

فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته *** عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

متى كان مفعول المشيئة عظيماً أو غريباً، كان الأحسن أن يذكر نحو‏:‏ لو شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيته، وسر ذكره أن السامع منكر لذلك، أو كالمنكر، فأنت تقصد إلى إثباته عنده، فإن لم يكن منكراً فالحذف نحو‏:‏ لو شئت قمت‏.‏ وفي التنزيل‏:‏ ‏{‏لو نشاء لقلنا مثل هذا‏}‏ انتهى‏.‏ وهو موافق لكلام الزمخشري‏.‏ وليس ذلك عندي على ما ذهبنا إليه من أنه إذا كان في مفعول المشيئة غرابة حسن ذكره، وإنما حسن ذكره في الآية والبيت من حيث عود الضمير، إذ لو لم يذكر لم يكن للضمير ما يعود عليه، فهما تركيبان فصيحان، وإن كان أحدهما أكثر‏.‏ فأحدهما الحذف ودلالة الجواب على المحذوف، إذ يكون المحذوف مصدراً دل عليه الجواب، وإذا كانوا قد حذفوا أحد جزأي الإسناد، وهو الخبر في نحو‏:‏ لولا زيد لأكرمتك، للطول بالجواب، وإن كان المحذوف من غير جنس المثبت فلأن يحذف المفعول الذي هو فضلة لدلالة الجواب عليه، إذ هو مقدر من جنس المثبت أولى‏.‏ والثاني‏:‏ أن يذكر مفعول المشيئة فيحتاج أن يكون في الجواب ضمير يعود على ما قبله، نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه‏}‏ وقول الشاعر‏:‏

فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته *** وأما إذا لم يدل على حذفه دليل فلا يحذف، نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمن شاء منكم أن يستقيم‏}‏ ‏{‏لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر‏}‏‏.‏ الشيء‏:‏ ما صح أن يعلم من وجه ويخبر عنه، قال سيبويه، رحمه الله، وإنما يخرج التأنيث من التذكير، ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أو أنثى‏؟‏ والشيء مذكر، وهو عندنا مرادف للموجود، وفي إطلاقه على المعدوم بطريق الحقيقة خلاف، ومن أطلق ذلك عليه فهو أنكر النكرات، إذ يطلق على الجسم والعرض والقديم والمعدوم والمستحيل‏.‏

القدرة‏:‏ القوة على الشيء والاستطاعة له، والفعل قدر ومصادره كثيرة‏:‏ قدر، قدرة، وبتثليث القاف، ومقدرة، وبتثليث الدال‏:‏ وقدر، أو قدر، أو قدر، أو قدار، أو قدار، أو قدراناً، ومقدراً، ومقدراً‏.‏

الجملة من قوله‏:‏ ‏{‏يكاد البرق يخطف أبصارهم‏}‏ لا موضع لها من الإعراب إذ هي مستأنفة جواب قائل قال‏:‏ فكيف حالهم مع ذلك البرق‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏يكاد البرق يخطف أبصارهم‏}‏، ويحتمل أن تكون في موضع جر صفة لذوي المحذوفة التقدير كائد البرق يخطف أبصارهم، والألف واللام في البرق للعهد، إذ جرى ذكره نكرة في قوله‏:‏ ‏{‏فيه ظلمات ورعد وبرق‏}‏، فصار نظير‏:‏ لقيت رجلاً فضربت الرجل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول‏}‏ وقرأ مجاهد، وعلي بن الحسين، ويحيى بن زيد‏:‏ يخطف بسكون الخاء وكسر الطاء، قال ابن مجاهد‏:‏ وأظنه غلطاً واستدل على ذلك بأن أحداً لم يقرأ بالفتح إلا من خطِف الخطفة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الفتح، يعني في المضارع أفصح، انتهى‏.‏ والكسر في طاء الماضي لغة قريش، وهي أفصح، وبعض العرب يقول‏:‏ خطف بفتح الطاء، يخطف بالكسر‏.‏ قال ابن عطية، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء، وذلك وهم‏.‏ وقرأ علي، وابن مسعود‏:‏ يختطف‏.‏ وقرأ أُبي‏:‏ يتخطف‏.‏ وقرأ الحسن أيضاً‏:‏ يخطف، بفتح الياء والخاء والطاء المشددة‏.‏ وقرأ الحسن أيضاً، والجحدري، وابن أبي إسحاق‏:‏ يخطف، بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة، وأصله يختطف‏.‏ وقرأ الحسن أيضاً، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري، وقتادة‏:‏ يخطف، بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة‏.‏ وقرأ أيضاً الحسن، والأعمش‏:‏ يخطف، بكسر الثلاثة وتشديد الطاء‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ يخطف، بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة من خطف، وهو تكثير مبالغة لا تعدية‏.‏ وقرأ بعض أهل المدينة‏:‏ يخطف، بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الطاء المكسورة، والتحقيق أنه اختلاس لفتحة الخاء لا إسكان، لأنه يؤدّي إلى التقاء الساكنين على غير حد التقائهما‏.‏

فهذا الحرف قرئ عشر قراءات‏:‏ السبعة يخطف، والشواذ‏:‏ يخطف يختطف يتخطف يخطف وأصله يتخطف، فحذف التاء مع الياء شذوذاً، كما حذفها مع التاء قياساً‏.‏ يخطف يخطف يخطف يخطف، والأربع الأخر أصلها يختطف فعرض إدغام التاء في الطاء فسكنت التاء للإدغام فلزم تحريك ما قبلها، فإما بحركة التاء، وهي الفتح مبينة أو مختلسة، أو بحركة التقاء الساكنين، وهي الكسر‏.‏ وكسر الياء اتباع لكسرة الخاء، وهذه مسألة إدغام اختصم به، وهي مسألة تصريفية يختلف فيها اسم الفاعل واسم المفعول والمصدر، وتبيين ذلك في علم التصريف‏.‏ ومن فسر البرق بالزجر والوعيد قال‏:‏ يكاد ذلك يصيبهم‏.‏ ومن مثله بحجج القرآن وبراهينه الساطعة قال‏:‏ المعنى يكاد ذلك يبهرهم‏.‏

وكل‏:‏ منصوب على الظرف وسرت إليه الظرفية من إضافته لما المصدرية الظرفية لأنك إذا قلت‏:‏ ما صحبتني أكرمتك، فالمعنى مدّة صحبتك لي أكرمك، وغالب ما توصل به ما هذه بالفعل الماضي، وما الظرفية يراد بها العموم، فإذا قلت‏:‏ أصحبك ما ذر لله شارق، فإنما تريد العموم‏.‏

فكل هذه أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية، ولا يراد في لسان العرب مطلق الفعل الواقع صلة لما، فيكتفى فيه بمرة واحدة، ولدلالتها على عموم الزمان جزم بها بعض العرب‏.‏ والتكرار الذي يذكره أهل أصول الفقه والفقهاء في كلما، إنما ذلك فيها من العموم، لا إن لفظ كلما وضع للتكرار، كما يدل عليه كلامهم، وإنما جاءت كل توكيداً للعموم المستفاد من ما الظرفية، فإذا قلت‏:‏ كلما جئتني أكرمتك، فالمعنى أكرمك في كل فرد فرد من جيئاتك إلي‏.‏ وما أضاء‏:‏ في موضع خفض بالإضافة، إذ التقدير كل إضاءة، وهو على حذف مضاف أيضاً، معناه‏:‏ كلّ وقت إضاءة، فقام المصدر مقام الظرف، كما قالوا‏:‏ جئتك خفوق النجم‏.‏ والعامل في كلما قوله‏:‏ مشوا فيه، وأضاء عند المبرد هنا متعد التقدير، كلما أضاء لهم البرق الطريق‏.‏ فيحتمل على هذا أن يكون الضمير في فيه عائداً على المفعول المحذوف، ويحتمل أن يعود على البرق، أي مشوا في نوره ومطرح لمعانه، ويتعين عوده على البرق فيمن جعل أضاء لازماً، أي‏:‏ كلما لمع البرق مشوا في نوره، ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة‏:‏ كلما ضاء ثلاثياً، وقد تقدّم أنها لغة‏.‏ وفي مصحف أُبيّ‏:‏ مرّوا فيه، وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ مضوا فيه‏.‏ وهذه الجملة استئناف ثالث كأنه قيل‏:‏ فأضاء لهم في حالتي وميض البرق وخفائه، قيل‏:‏ كلما أضاء لهم إلى آخره‏.‏

وقرأ يزيد بن قطيب والضحاك‏:‏ وإذا أظلم مبنياً للمفعول، وأصل أظلم أن لا يتعَدّى، يقال‏:‏ أظلم الليل‏.‏ وظاهر كلام الزمخشري أن أظلم يكون متعدياً بنفسه لمفعول، فلذلك جاز أن يبنى لما لم يسم فاعله‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أظلم على ما لم يسم فاعله، وجاء في شعر حبيب بن أوس الطائي‏:‏

هما أظلما حاليّ ثمت أجليا *** ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب

وهو أن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه‏.‏ ألا ترى إلى قول العلماء الدليل عليه بيت الحماسة، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه، انتهى كلامه‏.‏ فظاهره كما قلنا أنه متعدّ وبناؤه لما لم يسم فاعله، ولذلك استأنس يقول أبي تمام‏:‏ هما أظلما حالي، وله عندي تخريج غير ما ذكر الزمخشري، وهو أن يكون أظلم غير متعدّ بنفسه لمفعول، ولكنه يتعدّى بحرف جر‏.‏ ألا ترى كيف عدى أظلم إلى المجرور بعلى‏؟‏ فعلى هذا يكون الذي قام مقام الفاعل أو حذف هو الجار والمجرور، فيكون في موضع رفع، وكان الأصل‏:‏ وإذا أظلم الليل عليهم، ثم حذف، فقام الجار والمجرور مقامه، نحو‏:‏ غضب زيد علي عمرو، ثم تحذف زيداً وتبني الفعل للمفعول فتقول‏:‏ غضب على عمرو، فليس يكون التقدير إذ ذاك‏:‏ وإذا أظلم الله الليل، فحذفت الجلالة وأقيم ضمير الليل مقام الفاعل‏.‏

وأما ما وقع في كلام حبيب فلا يستشهد به، وقد نقد على أبي علي الفارسي الاستشهاد بقول حبيب‏:‏

من كان مرعى عزمه وهمومه *** روض الأماني لم يزل مهزولا

وكيف يستشهد بكلام من هو مولد، وقد صنف الناس فيما وقع له من اللحن في شعره‏؟‏ ومعنى قاموا‏:‏ ثبتوا ووقفوا، وصدرت الجملة الأولى بكلما، والثانية بإذا‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ لأنهم حراص على وجود ما هممهم به معقودة من إمكان المشي وتأتيه، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقف والتحبس، انتهى كلامه‏.‏ ولا فرق في هذه الآية عندي بين كلما وإذا من جهة المعنى، لأنه متى فهم التكرار من‏:‏ ‏{‏كلما أضاء لهم مشوا فيه‏}‏ لزم منه أيضاً التكرار في أنه إذا أظلم عليهم قاموا، لأن الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام، فمتى وجد هذا فقد هذا، فيلزم من تكرار وجود هذا تكرار عدم هذا، على أن من النحويين من ذهب إلى أن إذاً تدل على التكرار ككلما، وأنشد‏:‏

إذا وجدت أوار الحب في كبدي *** أقبلت نحو سقاء القوم أبترد

قال‏:‏ فهذا معناه معنى كلما‏.‏

وفي تأويل هذه الآية أقوال‏.‏ قال ابن عباس والسدي‏:‏ كلما أتاهم القرآن بما يحبونه تابعوه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم، فيسرعون إلى متابعته‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ البرق الإسلام، ومشيهم فيه إهتداؤهم، فإذا تركوا ذلك وقعوا في ضلالهم‏.‏ وقيل‏:‏ إضاءته لهم‏:‏ تركهم بلا ابتلاء، ومشيهم فيه‏:‏ إقامتهم على المسالمة بإظهار ما يظهرونه، وقيل‏:‏ كلما سمع المنافقون القرآن وحججه أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل ما يعمون فيه أو يكلفونه قاموا، أي ثبتوا على نفاقهم‏.‏ وقيل‏:‏ كلما توالت عليهم النعم قالوا‏:‏ دين حق، وإذا نزلت بهم مصيبة سخطوا وثبتوا على نفاقهم‏.‏ وقيل‏:‏ كلما خفي نفاقهم مشوا، فإذا افتضحوا قاموا، وقيل‏:‏ كلما أضاء لهم الحق اتبعوه، فإذا أظلم عليهم بالهوى تركوه‏.‏ وقيل‏:‏ ينتفعون بإظهار الإيمان، فإذا وردت محنة أو شدة على المسلمين تحيروا، كما قام أولئك في الظلمات متحيرين‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون، إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم، انتهزوا تلك الخفقة فرصة فحطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة، انتهى كلامه‏.‏

ومفعول شاء هنا محذوف للدلالة عليه التقدير‏:‏ ولو شاء الله إذهاب سمعهم وأبصارهم‏.‏ والكلام في الباء في بسمعهم كالكلام فيها في‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏، وتوحيد السمع تقدم الكلام عليه عند الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم‏}‏‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ لأذهب بأسماعهم وأبصارهم، فالباء زائدة التقدير لأذهب أسماعهم، كما قال بعضهم‏:‏ مسحت برأسه، يريد رأسه، وخشنت بصدره، يريد صدره، وليس من مواضع قياس زيادة الباء، وجمعه الإسماع مطابق لجمع الإبصار‏.‏ ومعنى الجملة‏:‏ أن ذهاب الله بسمعهم وأبصارهم كان يقع على تقدير مشيئة الله ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لإهلاكهم، لأن في هلاكهم ذهاب سمعهم وأبصارهم‏.‏ وقيل‏:‏ وعيد بإذهاب الأسماع والأبصار من أجسادهم حتى لا يتوصلوا بهما إلى مالهم، كما لم يتوصلوا بهما إلى ما عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ لأظهر عليهم بنفاقهم فذهب منهم عز الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ لأذهب أسماعهم فلا يسمعون الصواعق فيحذرون، ولأذهب أبصارهم فلا يرون الضوء ليمشوا‏.‏ وقيل، عن ابن عباس‏:‏ لذهب بسمعهم وأبصارهم لما تركوا من الحق بعد معرفته‏.‏ وقيل‏:‏ لعجل لهم العقوبة في الدنيا، فذهب بسمعهم وأبصارهم، فلم ينتفعوا بها في الدنيا، لأنهم لم يستعملوها في الحق فينتفعوا بها في أخراهم‏.‏ وقيل‏:‏ لزاد في قصيف الرعد فأصمهم وفي ضوء البرق فأعماهم‏.‏ وقيل‏:‏ لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد‏.‏ وقيل‏:‏ لفضحهم عند المؤمنين وسلطهم عليهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لذهب سمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق‏.‏

وظاهر الكلام أن هذا كله مما يتعلق بذوي صيب، فصرف ظاهره إلى أنه مما يتعلق بالمنافقين غير ظاهر، وإنما هذا مبالغة في تحير هؤلاء السفر وشدة ما أصابهم من الصيب الذي اشتمل على ظلمات ورعد وبرق، بحيث تكاد الصواعق تصمهم والبرق يعميهم‏.‏ ثم ذكر أنه لو سبقت المشيئة بذهاب سمعهم وأبصارهم لذهبت، وكما اخترنا في قوله ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ إلى آخره أنه مبالغة في حال المستوقد، كذلك اخترنا هنا أن هذا مبالغة في حالة السفر، وشدة المبالغة في حال المشبه بهما يقتضي شدة المبالغة في حال المشبه، فهو وإن لم تكن هذه الجزئيات التي للمشبه به ثابتة للمشبه بنظائرها ثابتة له، ولا سيما إذا كان التمثيل من قبيل التمثيلات المفردة‏.‏ وأما على ما اخترناه من أنه من التمثيلات المركبة، فتكون المبالغة في التشبيه بما آل إليه حال المشبه به، وقد تقدم الكلام على ذلك قبل، وخص السمع والأبصار في قوله‏:‏ ‏{‏لذهب بسمعهم وأبصارهم‏}‏ لتقدم ذكرهما في قوله‏:‏ ‏{‏في آذانهم‏}‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏يخطف أبصارهم‏}‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ تقدم ذكر الرعد والصواعق، ومدركهما السمع، والظلمات والبرق، ومدركهما‏:‏ البصر، ثم قال‏:‏ لو شاء أذهب ذلك من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم، أعقب تعالى ما علقه على المشيئة بالإخبار عنه تعالى بالمقدرة لأن بهما تمام الأفعال، أعني القدرة والإرادة وأتى بصيغة المبالغة إذ لا أحق بها منه تعالى‏.‏ وعلى كل شيء‏:‏ متعلق بقوله‏:‏ قدير، وفي لفظ قدير ما يشعر بتخصيص العموم، إذ القدرة لا تتعلق بالمستحيلات‏.‏

وقد تقدم لنا بعض كلام على تناسق الآي التي تقدم الكلام عليها، ونحن نلخص ذلك هنا، فنقول‏:‏ افتتح تعالى هذه السورة بوصف كلامه المبين، ثم بين أنه هدى لمؤمني هذه الأمة ومدحهم، ثم مدح من ساجلهم في الإيمان وتلاهم من مؤمني أهل الكتاب، وذكر ما هم عليه من الهدى في الحال ومن الظفر في المآل، ثم تلاهم بذكر أضدادهم المختوم على قلوبهم وأسماعهم المغطي أبصارهم الميؤوس من إيمانهم، وذكر ما أعد لهم من العذاب العظيم، ثم أتبع هؤلاء بأحوال المنافقين المخادعين المستهزئين وأخر ذكرهم وإن كانوا أسوأ أحوالاً من المشركين، لأنهم اتصفوا في الظاهر بصفات المؤمنين وفي الباطن بصفات الكافرين، فقدم الله ذكر المؤمنين، وثنّى بذكر أهل الشقاء الكافرين، وثلّث بذكر المنافقين الملحدين، وأمعن في ذكر مخازيهم فأنزل فيهم ثلاث عشرة آية، كل ذلك تقبيح لأحوالهم وتنبيه على مخازي أعمالهم، ثم لم يكتف بذكر ذلك حتى أبرز أحوالهم في صورة الأنفال، فكان ذلك أدعى للتنفير عما اجترحوه من قبيح الأفعال‏.‏

فانظر إلى حسن هذا السياق الذي نوقل في ذروة الإحسان وتمكن في براعة أقسام البديع وبلاغة معاني البيان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏21‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

يا‏:‏ حرف نداء، وزعم بعضهم أنها اسم فعل معناها‏:‏ أنادي، وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلا بها، وهي أعم حروف النداء، إذ ينادي بها القريب والبعيد والمستغاث والمندوب‏.‏ وأمالها بعضهم، وقد تتجرد للتنبيه فيليها المبتدأ والأمر والتمني والتعليل، والأصح أن لا ينوي بعدها منادي‏.‏ أي‏:‏ استفهام وشرط وصفة ووصلة لنداء ما فيه الألف واللام، وموصولة، خلافاً لأحمد بن يحيى، إذ أنكر مجيئها موصولة، ولا تكون موصوفة خلافاً للأخفش‏.‏ ها‏:‏ حرف تنبيه، أكثر استعمالها مع ضمير رفع منفصل مبتدأ مخبر عنه باسم إشارة غالباً، أو مع اسم إشارة لا لبعد، ويفصل بها بين أي في النداء وبين المرفوع بعده، وضمها فيه لغة بني مالك من بني أسد، يقولون‏:‏ يا أيه الرجل، ويا أيتها المرأة‏.‏ الخلق‏:‏ الاختراع بلا مثال، وأصله التقدير، خلقت الأديم قدرته، قال زهير‏:‏

ولأنت تفرى ما خلقت *** وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى

قال قطرب‏:‏ الخلق هو الإيجاد على تقدير وترتيب، والخلق والخليقة تنطلق على المخلوق، ومعنى الخلق والإيجاد، والإحداث، والإبداع، والإختراع، والإنشاء، متقارب‏.‏ قيل‏:‏ ظرف زمان، ولا يعمل فيها عامل فيخرجها عن الظرفية إلا من، وأصلها وصف ناب عن موصوفه لزوماً، فإذا قلت‏:‏ قمت قبل زيد، فالتقدير قمت زماناً قبل زمان قيام زيد، فحذف هذا كله وناب عنه قبل زيد‏.‏ لعل‏:‏ حرف ترجّ في المحبوبات، وتوقع في المحدورات، ولا تستعمل إلا في الممكن، لا يقال‏:‏ لعل الشباب يعود، ولا تكون بمعنى كي، خلافاً لقطرب وابن كيسان، ولا استفهاماً خلافاً للكوفيين، وفيها لغات لم يأت منها في القرآن إلا الفصحى، ولم يحفظ بعدها نصب الاسمين، وحكى الأخفش أن من العرب من يجزم بلعل، وزعم أبو زيد أن ذلك لغة بني عقيل‏.‏ الفراش‏:‏ الوطاء الذي يقعد عليه وينام ويتقلب عليه‏.‏ البناء‏:‏ مصدر، وقد يراد به المنقول من بيت أو قبة أو خباء أو طراف وأبنية العرب أخبيتهم‏.‏ الماء‏:‏ معروف، وقال بعضهم‏:‏ هو جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة من واو وهمزته بدل من هاء يدل عليه‏:‏ مويه، ومياه، وأمواه‏.‏ الثمرة‏:‏ ما تخرجه الشجرة من مطعوم أو مشموم‏.‏ الند‏:‏ المقاوم المضاهى مثلاً كان أو ضداً أو خلافاً‏.‏ وقال أبو عبيدة والمفضل‏:‏ الند‏:‏ الضد، قال ابن عطية، وهذا التخصيص تمثيل لا حصر‏.‏ وقال غيره‏:‏ الند‏:‏ الضد المبغض المناوي من الندود، وقال المهدوي‏:‏ الند‏:‏ الكفؤ والمثل، هذا مذهب أهل اللغة سوى أبي عبيدة‏.‏ فإنه قال‏:‏ الضد‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ الند‏:‏ المثل، ولا يقال إلا للمثل المخالف للبارئ، قال جرير‏:‏

أتيما تجعلون إلي نداً *** وما تيم لذي حسب نديد

وناددت الرجل‏:‏ خالفته ونافرته، من ند ندوداً إذا نفر‏.‏ ومعنى قولهم‏:‏ ليس لله ند ولا ضد، نفى ما يسد مسده ونفي ما ينافيه‏.‏

يا أيها الناس‏:‏ خطاب لجميع من يعقل، قاله ابن عباس، أو اليهود خاصة، قاله الحسن ومجاهد، أو لهم وللمنافقين، قاله مقاتل، أو لكفار مشركي العرب وغيرهم، قاله السّدي، والظاهر قول ابن عباس لأن دعوى الخصوص تحتاج إلى دليل‏.‏ ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وصفاتهم وأحوالهم وما يؤول إليه حال كل منهم، انتقل من الإخبار عنهم إلى خطاب النداء، وهو التفات شبيه بقوله‏:‏ ‏{‏إياك نعبد‏}‏، بعد قوله‏:‏ ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏، وهو من أنواع البلاغة كما تقدم، إذ فيه هز للسامع وتحريك له، إذ هو خروج من صنف إلى صنف، وليس هذا انتقالاً من الخطاب الخاص إلى الخطاب العام، كما زعم بعض المفسرين، إذ لم يتقدم خطاب خاص إلا إن كان ذلك تجوزاً في الخطاب بأن يعني به الكلام، فكأنه قال‏:‏ انتقل من الكلام الخاص إلى الكلام العام، قال هذا المفسر، وهذا من أساليب الفصاحة، فإنهم يخصون ثم يعمون‏.‏ ولهذا لما نزل‏:‏ ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخص وعم، فقال‏:‏ «يا عباس عم محمد لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً» وقال الشاعر‏:‏

يا بني اندبوا ويا أهل بيتي *** وقبيلي عليّ عاماً فعاما

انتهى كلامه‏.‏

وروي عن ابن عباس ومجاهد وعلقمة أنهم قالوا‏:‏ كل شيء نزل فيه‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ فهو مكي، و‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ فهو مدني‏.‏ أما في ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ فصحيح، وأما في ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ فيحمل على الغالب، لأن هذه السورة مدنية، وقد جاء فيها يا أيها الناس‏.‏ وأي في أيها منادى مفرد مبني على الضم، وليست الضمة فيه حركة إعراب خلافاً للكسائي والرياشي، وهي وصلة لنداء ما فيه الألف واللام ما لم يمكن أن ينادي توصل بنداء أي إلى ندائه، وهي في موضع نصب، وهاء التنبيه كأنها عوض مما منعت من الإضافة وارتفع الناس على الصفة على اللفظ، لأن بناء أي شبيه بالإعراب، فلذلك جاز مراعاة اللفظ، ولا يجوز نصبه على الموضع، خلافاً لأبي عثمان‏.‏ وزعم أبو الحسن في أحد قوليه أن أيا في النداء موصولة وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، فإذا قال‏:‏ يا أيها الرجل، فتقديره‏:‏ يا من هو الرجل‏.‏ والكلام على هذا القول وقول أبي عثمان مستقصى في النحو‏.‏

اعبدوا ربكم‏:‏ ولما واجه تعالى الناس بالنداء أمرهم بالعبادة، وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إياك نعبد‏}‏، والأمر بالعبادة شمل المؤمنين والكافرين‏.‏

لا يقال‏:‏ المؤمنون عابدون، فيكف يصح الأمر بما هم ملتبسون به‏؟‏ لأنه في حقهم أمر بالازدياد من العبادة، فصح مواجهة الكل بالعبادة، وانظر لحسن مجيء الرب هنا، فإنه السيد والمصلح، وجدير بمن كان مالكاً أو مصلحاً أحوال العبد أن يخص بالعبادة ولا يشرك مع غيره فيها‏.‏ والخطاب، إن كان عاماً، كان قوله‏:‏ ‏{‏الذي خلقكم‏}‏ صفة مدح، وإن كان لمشركي العرب كانت للتوضيح، إذ لفظ الرب بالنسبة إليهم مشترك بين الله تعالى وبين آلهتهم، ونبه بوصف الخلق على استحقاقه العبادة دون غيره، ‏{‏أفمن يخلق كم لا يخلق‏}‏ أو على امتنانه عليهم بالخلق على الصورة الكاملة، والتمييز عن غيرهم بالعقل، والإحسان إليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، أو على إقامة الحجة عليهم بهذا الوصف الذي لا يمكن أن يشرك معه فيه غيره، ووصف الربوبية والخلق موجب للعبادة، إذ هو جامع لمحبة الاصطناع والاختراع، والمحب يكون على أقصى درجات الطاعة لمن يحب‏.‏ وقالوا‏:‏ المحبة ثلاث، فزادوا محبة الطباع كمحبة الوالد لولده، وأدغم أبو عمر وخلقكم، وتقدّم تفسير الخلق في اللغة، وإذا كان بمعنى الاختراع والإنشاء فلا يتصف به إلا الله تعالى‏.‏

وقد أجمع المسلمون على أن لا خالق إلا الله تعالى، وإذا كان بمعنى التقدير، فمقتضى اللغة أنه قد يوصف به غير الله تعالى، كبيت زهير‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فتبارك الله أحسن الخالقين‏}‏ ‏{‏وإذ تخلق من الطين‏}‏ وقال أبو عبد الله البصري، أستاذ القاضي عبد الجبار‏:‏ إطلاق اسم الخالق على الله تعالى محال، لأن التقدير والتسوية عبارة عن الفكر والظن والحسبان، وذلك في حق الله تعالى محال‏.‏ وكأنّ أبا عبد الله لم يعلم أن الخلق في اللغة يطلق على الإنشاء، وكلام البصري مصادم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الله الخالق البارئ‏}‏ إذ زعم أنه لا يطلق اسم الخالق على الله، وفي اللغة والقرآن والإجماع ما يرد عليه‏.‏ وعطف قوله‏:‏ ‏{‏والذين من قبلكم‏}‏ على الضمير المنصوب في خلقكم، والمعطوف متقدّم في الزمان على المعطوف عليه وبدأ به، وإن كان متأخراً في الزمان، لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره، إذ أقرب الأشياء إليه نفسه، ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة، فتنبيههم أولاً على أحوال أنفسهم آكد وأهم، وبدأ أولاً بصفة الخلق، إذ كانت العرب مقرة بأن الله خالقها، وهم المخاطبون، والناس تبع لهم، إذ نزل القرآن بلسانهم‏.‏ وقرأ ابن السميفع‏:‏ وخلق من قبلكم، جعله من عطف الجمل‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ ‏{‏والذين من قبلكم‏}‏ بفتح ميم من، قال الزمخشري‏:‏ وهي قراءة مشكلة ووجهها على أشكالها أن يقال‏:‏ أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً، كما أقحم جرير في قوله‏:‏

يا تيم تيم عدي لا أبا لكم *** تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في لا أبا لك، انتهى كلامه‏.‏

وهذا التخريج الذي خرج الزمخشري قراءة زيد عليه هو مذهب لبعض النحويين زعم أنك إذا أتيت بعد الموصول بموصول آخر في معناه مؤكد له، لم يحتج الموصول الثاني إلى صلة، نحو قوله‏:‏

من النفر اللائي الذين أذاهم *** يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا

فإذا وجوابها صلة اللائي، ولا صلة للذين، لأنه إنما أتى به للتأكيد‏.‏ قال أصحابنا‏:‏ وهذا الذي ذهب إليه باطل، لأن القياس إذا أكد الموصول أن تكرره مع صلته لأنها من كماله، وإذا كانوا أكدوا حرف الجر أعادوه مع ما يدخل عليه لافتقاره إليه، ولا يعيدونه وحده إلا في ضرورة، فالأحرى أن يفعل مثل ذلك بالموصول الذي الصلة بمنزلة جزء منه‏.‏ وخرج أصحابنا البيت على أن الصلة للموصول الثاني وهو خبر مبتدأ محذوف، ذلك المبتدأ والموصول في موضع الصلة للأول تقديره من النفر اللائي هم الذين أذا هم، وجاز حذف المبتدأ وإضماره لطول خبره، فعلى هذا يتخرج قراءة زيد أن يكون قبلكم صلة من، ومن خبر مبتدأ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره صلة للموصول الأول وهو الذين، التقدير والذين هم من قبلكم‏.‏ وعلى قراءة الجمهور تكون صلة الذين قوله‏:‏ ‏{‏من قبلكم‏}‏، وفي ذلك إشكال، لأن الذين أعيان، ومن قبلكم جار ومجرور ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة، فكذلك الوصل به إلا على تأويل، وتأويله أنه يؤول إلى أن ظرف الزمان إذا وصف صح وقوعه خبراً نحو‏:‏ نحن في يوم طيب، كذلك يقدر هذا والذين كانوا من زمان قبل زمانكم‏.‏ وهذا نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كالذين من قبلكم‏}‏ وإنما ذكر ‏{‏والذين من قبلكم‏}‏، وإن كان خلقهم لا يقتضي العبادة علينا لأنهم كالأصول لهم، فخلق أصولهم يجري مجرى الأنعام على فروعهم، فذكرهم عظيم إنعامه تعالى عليهم وعلى أصولهم بالإيجاد‏.‏

وليست لعل هنا بمعنى كي لأنه قول مرغوب عنه ولكنها للترجي والأطماع، وهو بالنسبة إلى المخاطبين، لأن الترجي لا يقع من الله تعالى إذ ‏{‏هو عالم الغيب والشهادة‏}‏ وهي متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏اعبدوا ربكم‏}‏، فكأنه قال‏:‏ إذا عبدتم ربكم رجوتم التقوى، وهي التي تحصل بها الوقاية من النار والفوز بالجنة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويتجه تعلقها بخلقكم لأن كل مولود يوجد على الفطرة فهو بحيث يرجى أن يكون متقياً‏.‏ ولم يذكر الزمخشري غير تعلقها بخلقكم، قال‏:‏ لعل واقعة في الآية موقع المجاز لا الحقيقة، لأن الله تعالى خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف، وركب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم، وهداهم النجدين، ووضع في أيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم الخير والتقوى، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم، وهم مختارون بين الطاعة، والعصيان، كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل، انتهى كلامه‏.‏

وهو مبني على مذهبه الاعتزالي من أن العبد مختار، وأنه لا يريد الله منه إلا فعل الخير، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين‏.‏ والذي يظهر ترجيحه أن يكون‏:‏ ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ متعلقاً بقوله‏:‏ ‏{‏اعبدوا ربكم‏}‏‏.‏ فالذي نُودوا لأجله هو الأمر بالعبادة، فناسب أن يتعلق بها ذلك وأتى بالموصول وصلته على سبيل التوضيح أو المدح للذي تعلقت به العبادة، فلم يجأ بالموصول ليحدث عنه بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة‏.‏ وأما صلته فلم يجأ بها لإسناد مقصود لذاته، إنما جيء بها لتتميم ما قبلها‏.‏ وإذا كان كذلك فكونها لم يجأ بها لإسناد يقتضي أن لا يهتم بها فيتعلق بها ترج أو غيره، بخلاف قوله‏:‏ اعبدوا، فإنها الجملة المفتتح بها أولاً والمطلوبة من المخاطبين‏.‏ وإذا تعلق بقوله‏:‏ اعبدوا، كان ذلك موافقاً، إذ قوله‏:‏ اعبدوا خطاب، ولعلكم تتقون خطاب‏.‏

ولما اختار الزمخشري تعلقه بالخلق قال‏:‏ فإن قلت كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون، فكذلك خلق الذين من قبهلم، لذلك قصره عليهم دون من قبلهم، قلت‏:‏ لم يقصره عليهم ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعاً، انتهى كلامه‏.‏ وقد تقدم ترجيح تعلقه بقوله‏:‏ اعبدوا، فيسقط هذا السؤال‏.‏ وقال المهدوي‏:‏ لعل متصلة باعبدوا لا بخلقكم، لأن من درأه الله عز وجل لجهنم لم يخلقه ليتقي‏.‏ والمعنى عند سيبويه‏:‏ افعلوا ذلك على الرجاء والطمع أن تتقوا، انتهى كلامه‏.‏ ولما جعل الزمخشري لعلكم تتقون متعلقاً بالخلق قال‏:‏ فإن قلت‏:‏ فهلا قيل‏:‏ تعبدون لأجل اعبدوا أو اتقوا المكان تتقون ليتجاوب طرفا النظم‏؟‏ قلت‏:‏ ليست التقوى غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النظم، وإنما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده، فإذا قال‏:‏ ‏{‏اعبدوا ربكم الذي خلقكم‏}‏ للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة وأشد إلزاماً لها وأثبت لها في النفوس، انتهى كلامه‏.‏ وهو مبني على مذهبه في أن الخلق كان لأجل التقوى، وقد تقدم ذلك‏.‏ وأما قوله‏:‏ ليتجاوب طرفا النظم فليس بشيء لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم لأنه يصير المعنى‏:‏ اعبدوا ربكم لعلكم تتقون، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، وهذا بعيد في المعنى، إذ هو مثل‏:‏ اضرب زيداً لعلك تضربه، واقصد خالداً لعلك تقصده‏.‏ ولا يخفى ما في هذا من غثاثة اللفظ وفساد المعنى، والقرآن متنزه عن ذلك‏.‏ والذي جاء به القرآن هو في غاية الفصاحة، إذ المعنى أنهم أمروا بالعبادة على رجائهم عند حصولها حصول التقوى لهم، لأن التقوى مصدر اتقى، واتقى معناه اتخاذ الوقاية من عذاب الله، وهذا مرجو حصوله عند حصول العبادة‏.‏ فعلى هذا، العبادة ليست نفس التقوى، لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار، والعبادة فعل المأمور به، وفعل المأمور به ليس نفس الاحتراز بل يوجب الاحتراز، فكأنه قال‏:‏ اعبدوه فتحترزوا عن عقابه، فإن أطلق على نفس الفعل اتقاء فهو مجاز، ومفعول يتقون محذوف‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ الشرك، وقال الضحاك‏:‏ النار، أو معناه تطيعون، قاله مجاهد‏:‏ ومن قال المعنى الذي خلقكم راجين للتقوى‏.‏ قال بعض المفسرين‏:‏ فيه بعد من حيث إنه لو خلقهم راجين للتقوى كانوا مطيعين مجبولين عليها، والواقع خلاف ذلك، انتهى كلامه‏.‏ ويعني أنهم لو خلقوا وهم راجون للتقوى لكان ذلك مركوزاً في جبلتهم، فكان لا يقع منهم غير التقوى وهم ليسوا كذلك، بل المعاصي هي الواقعة كثيراً، وهذا ليس كما ذكر، وقد يخلق الإنسان راجياً لشيء فلا يقع ما يرجوه، لأن الإنسان في الحقيقة ليس له الخيار فيما يفعله أو يتركه، بل نجد الإنسان يعتقد رجحان الترك في شيء ثم هو يفعله، ولقد صدق الشاعر في قوله‏:‏

علمي بقبح المعاصي حين أركبها *** يقضي بأني محمول على القدر

فلا يلزم من رجاء الإنسان لشيء وقوع ما يرتجي، وإنما امتنع ذلك التقدير، أعني تقدير الحال، من حيث إن لعل للإ نشاء، فهي وما دخلت عليه ليست جملة خبرية فيصح وقوعها حالاً‏.‏

قال الطبري‏:‏ هذه الآية، يريد‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اعبدوا‏}‏ من أدلّ دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لا يطاق غير جائز، وذلك أن الله عز وجل أمر بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون‏.‏ والموصول الثاني في قوله‏:‏ ‏{‏الذي جعل‏}‏ يجوز رفعه ونصبه، فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، فهو رفع على القطع، إذ هو صفة مدح، قالوا‏:‏ أو على أنه مبتدأ خبره قوله‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً‏}‏، وهو ضعيف لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن صلة الذي وما عطف عليها قد مضيا، فلا ينابسب دخول الفاء في الخبر‏.‏ الثاني‏:‏ أن ذلك لا يتمشى إلا على مذهب أبي الحسن، لأن من الروابط عنده تكرار المبتدأ بمعناه، فالذي مبتدأ، و‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً‏}‏ جملة خبرية، والرابط لفظ الله من لله كأنه قيل‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً‏}‏، وهذا من تكرار المبتدأ بمعناه‏.‏ ولا نعرف إجازة ذلك إلا عن أبي الحسن‏.‏ أجاز أن تقول‏:‏ زيد قام أبو عمرو، وإذا كان أبو عمرو كنية لزيد، ونص سيبويه على منع ذلك‏.‏ وأما نصبه فيجوز أن يكون على القطع، إذ هو وصف مدح، كما ذكرنا، ويجوز أن يكون وصفاً لما كان له وصفاً الذي خلقكم، وهو ربكم، قالوا‏:‏ ويجوز نصبه على أن يكون نعتاً لقوله‏:‏ ‏{‏الذي خلقكم‏}‏، فيكون نعتاً للنعت ونعت النعت مما يحيل تكرار النعوت‏.‏ والذي نختاره أن النعت لا ينعت، بل النعوت كلها راجعة إلى منعوت واحد، إلا إن كان ذلك النعت لا يمكن تبعيته للمنعوت، فيكون إذ ذاك نعتاً للنعت الأول، نحو قولك‏:‏ يا أيها الفارس ذو الجمة‏.‏

وأجاز أبو محمد مكي نصبه بإضمار أعني، وما قبله ليس بملتبس، فيحتاج إلى مفسر له بإضمار أعني، وأجاز أيضاً نصبه بتتقون، وهو إعراب غث ينزه القرآن عن مثله‏.‏ وإنما أتى بقوله الذي دون واو لتكون هذه الصفة وما قبلها راجعين إلى موصوف واحد، إذ لو كانت بالواو لأوهم ذلك موصوفاً آخر، لأن العطف أصله المغايرة‏.‏

وجعل‏:‏ بمعنى صير، لذلك نصبت الأرض‏.‏ وفراشاً، ولكم متعلق بجعل، وأجاز بعضهم أن ينتصب فراشاً وبناء على الحال، على أن يكون جعل بمعنى خلق، فيتعدى إلى واحد، وغاير اللفظ كما غاير في قوله‏:‏ ‏{‏خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور‏}‏ لأنه قصد إلى ذكر جملتين، فغاير بين اللفظين لأن التكرار ليس في الفصاحة، كاختلاف اللفظ والمدلول واحد‏.‏ وأدغم أبو عمرو لام جعل في لام لكم، والألف واللام في الأرض يجوز أن تكون للجنس الخاص، فيكون المراد أرضاً مخصوصة، وهي كل ما تمهد واستوى من الأرض وصلح أن يكون فراشاً‏.‏ ويجوز أن تكون لاستغراق الجنس، ويكون المراد بالفراش مكان الاستقرار واللبث لكل حيوان‏.‏ فالوهد مستقر بني آدم وغيرهم من الحيوانات، والجبال والحزون مستقر لبعض الآدميين بيوتاً أو حصوناً ومنازل، أو لبعض الحيوانات وحشاً وطيراً يفترشون منها أوكاراً، ويكون الامتنان على هذا مشتملاً على كل من جعل الأرض له قراراً‏.‏ وغلب خطاب من يعقل على من لا يعقل، أو يكون خطاب الامتنان وقع على من يعقل، لأن ما عداهم من الحيوانات معد لمنافعهم ومصالحهم، فخلقها من جملة المنة على من يعقل‏.‏ وقرأ يزيد الشامي‏:‏ بساطاً، وطلحة‏:‏ مهاداً‏.‏ والفراش، والمهاد، والبساط، والقرار، والوطاء نظائر‏.‏

وقد استدل بعض المنجمين بقوله‏:‏ ‏{‏جعل لكم الأرض فراشاً‏}‏ على أن الأرض مبسوطة لا كرية، وبأنها لو كانت كرية ما استقر ماء البحار فيها‏.‏ أما استدلاله بالآية فلا حجة له في ذلك، لأن الآية لا تدل على أن الأرض مسطحة ولا كرية، إنما دلت على أن الناس يفترشونها كما يتقلبون بالمفارش، سواء كانت على شكل السطح أو على شكل الكرة، وأمكن الافتراش فيها لتباعد أقطارها واتساع جرمها‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وإذا كان يعني الافتراش سهلاً في الجبل، وهو وتد من أوتاد الأرض، فهو أسهل في الأرض ذات الطول والعرض‏.‏ وأما استدلاله باستقرار ماء البحار فيها فليس بصحيح، قالوا‏:‏ لأنه يجوز أن تكون كرية ويكون في جزء منها منسطح يصلح للاستقرار، وماء البحر متماسك بأمر الله تعالى لا بمقتضى الهيئة، انتهى قولهم‏.‏ ويجوز أن يكون بعض الشكل الكري مقراً للماء إذا كان الشكل ثابتاً غير دائر، أما إذا كان دائراً فيستحيل عادة قراره في مكان واحد من ذلك الشكل الكريّ‏.‏ وهذه مسألة يتكلم عليها في علم الهيئة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء بناء‏}‏‏:‏ هو تشبيه بما يفهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء بنيناها بأيد‏}‏ شبهت بالقبة المبنية على الأرض، ويقال لسقف البيت بناء، والسماء للأرض كالسقف، روي هذا عن ابن عباس وجماعة‏.‏ وقيل‏:‏ سماها بناء، لأن سماء البيت يجوز أن يكون بناء غير بناء، كالخيام والمضارب والقباب، لكن البناء أبلغ في الإحكام وأتقن في الصنعة وأمنع لوصول الأذى إلى من تحته، فوصف السماء بالأبلغ والأتقن والأمنع، ونبه بذلك على إظهار قدرته وعظيم حكمته، إذ المعلوم أن كل بناء مرتفع لا يتهيأ إلا بأساس مستقر على الأرض أو بعمد وأطناب مركوزة فيها، والسماء في غاية ما يكون من العظم، وهي سبع طباق بعضها فوق بعض، وعليها من أثقال الأفلاك وأجناس الأملاك وأجرام الكواكب التي لا يعبر عن عظمها ولا يحصي عددها، وهي مع ذلك بغير أساس يمسكها ولا عمد تقلها ولا أطناب تشدها، وهي لو كانت بعمد وأساس كانت من أعظم المخلوقات وأحكم المبدعات، فكيف وهي عارية عن ذلك ممسكة بالقدرة الإلهية‏:‏ ‏{‏إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا‏}‏ وقيل‏:‏ سميت بناء لتماسكها كما يتماسك البناء بعضه ببعض‏.‏

وأنزل من السماء‏:‏ يجوز أن يراد به السحاب، ويجوز أن يراد به السماء المعروفة‏.‏ فعلى الأول الجامع بينهما هو القدر المشترك من السمو، ولا يجوز الإضمار لأنه غير الأول، وعلى الثاني فحسن الإظهار دون الإضمار هنا كون السماء الأولى في ضمن جملة، والثانية جملة صالحة بنفسها أن تكون صلة تامة لولا عطفها، ومن متعلقة بأنزل وهي لابتداء الغاية، ويحتمل أن تتعلق بمحذوف على أن تكون في موضع الحال من ماء، لأنه لو تأخر لكان نعتاً فلما تقدم انتصب على الحال، ومعناها إذ ذاك التبعيض، ويكون في الكلام مضاف محذوف أي من مياه السماء ونكر‏.‏ ماء لأن المنزل لم يكن عاماً فتدخل عليه الألف واللام وإنما هو ما صدق عليه الاسم‏.‏ فأخرج به‏:‏ والهاء في به عائدة إلى الماء، والباء معناها السببية‏.‏ فالماء سبب للخروج، كما أن ماء الفحل سبب في خلق الولد، وهذه السببية مجاز، إذ الباري تعالى قادر على أن ينشئ الأجناس، وقد أنشأ من غير مادة ولا سبب، ولكنه تعالى لما أوجد خلقه في بعض الأشياء عند أمر ما، أجرى ذلك الأمر مجرى السبب لا أنه سبب حقيقيّ‏.‏ ولله تعالى في إنشاء الأمور منتقلة من حال إلى حال حكم يستنصر بها، لم يكن في إنشائها دفعة واحدة من غير انتقال أطوار، لأن في كل طور مشاهدة أمر من عجيب التنقل وغريب التدريج تزيد المتأمل تعظيماً للباري‏.‏ من الثمرات‏:‏ من للتبعيض، والألف واللام في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه، ولا ضرورة تدعو إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموع التي يتفاوت بعضها موضع بعض لالتقائهما في الجمعية، نحو‏:‏

‏{‏كم تركوا من جنات‏}‏ و‏{‏ثلاثة قروء‏}‏ فقامت الثمرات مقام الثمر أو الثمار على ما ذهب إليه الزمخشري، لأن هذا من الجمع المحلى بالألف واللام، فهو وإن كان جمع قلة، فإن الألف واللام التي للعموم تنقله من الاختصاص لجمع القلة للعموم، فلا فرق بين الثمرات والثمار، إذ الألف واللام للاستغراق فيهما، ولذلك رد المحققون على من نقد على حسان قوله‏:‏

لنا الجفنات الغر يل معن في الضحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

بأن هذا جمع قلة، فكان ينبغي على زعمه أن يقول‏:‏ الجفان وسيوفنا، وهو نقد غير صحيح لما ذكرناه من أن الاستغراق ينقله، وأبعد من جعل من زائدة، وجعل الألف واللام للاستغراق لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ زيادة من في الواجب، وقيل معرفة، وهذا لا يقول به أحد من البصريين والكوفيين إلا الأخفش‏.‏ والثاني‏:‏ أنه يلزم منه أن يكون جميع الثمرات التي أخرجها رزقاً لنا، وكم من شجرة أثمرت شيئاً لا يمكن أن يكون رزقاً لنا، وإن كانت للتبعيض كان بعض الثمار رزقاً لنا وبعضها لا يكون رزقاً لنا، وهو الواقع‏.‏ وناسب في الآية تنكير الماء وكون من دالة على التبعيض وتنكير الرزق، إذ المعنى‏:‏ وأنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات بعض رزق لكم، إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات، إنما ذلك بعض رزقهم، ومن الثمرات يحتمل أن يكون في موضع المفعول به بأخرج، ويكون على هذا رزقاً منصوباً على الحال إن أُريد به المرزوق كالطحن والرعي، أو مفعولاً من أجله إن أريد به المصدر، وشروط المفعول له فيه موجودة، ويحتمل أن يكون متعلقاً بأخرج، ويكون رزقاً مفعولاً بأخرج‏.‏ وقرأ ابن السميفع‏:‏ من الثمرة على التوحيد، يريد به الجمع كقولهم‏:‏ فلان أدركت ثمرة بستانه، يريدون ثماره‏.‏ وقولهم‏:‏ للقصيدة كلمة، وللقرية مدرة، لا يريدون بذلك الإفراد‏.‏ ولكم‏:‏ إن أريد بالرزق المصدر كانت الكاف مفعولاً به واللام منوية لتعدّي المصدر إليه نحو‏:‏ ضربت ابني تأديباً له، أي تأديبه، وإن أريد به المرزوق كان في موضع الصفة فتتعلق اللام بمحذوف، أي كائناً لكم، ويحتمل أن تكون لكم متعلقاً بأخرج، أي فأخرج لكم به من الثمرات رزقاً‏.‏ وانتهى عند قوله‏:‏ رزقاً لكم ذكر خمسة أنواع من الدلائل‏:‏ اثنين من الأنفس خلقهم وخلق من قبلهم، وثلاثة من غير الأنفس كون الأرض فراشاً وكون السماء بناءً، والحاصل من مجموعهما تقدم خلق الإنسان لأنه أقرب إلى معرفته، وثنّى بخلق الآباء، وثلث بالأرض لأنها أقرب إليه من السماء، وقدّم السماء على نزول المطر وإخراج الثمرات، لأن هذا كالأمر المتولد بين السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر‏.‏ وقيل‏:‏ قدم المكلفين لأن خلقهم أحياء قادرين أصل لجميع النعم‏.‏ وأما خلق السماء والأرض والماء والثمر، فإنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة والعقل‏.‏

وقد اختلف أيهما أفضل، ومن قال السماء أفضل قال‏:‏ لأنها متعبد الملائكة وما فيها من بقعة عصى الله فيه، ولأن آدم لما عصاه قال‏:‏ لا تسكن جواري، ولتقديم السماء على الأرض في أكثر الآيات، ولأن فيها العرش والكرسي واللوح المحفوظ والقلم، وأنها قبلة الدعاء‏.‏ ومن قال الأرض أفضل قال‏:‏ لأن الله وصف منها بقاعاً بالبركة، ولأن الأنبياء مخلوقون منها، ولأنها مسجد وطهور‏.‏

‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً‏}‏ ظاهره أنه نهى عن اتخاذ الأنداد، وسموا أنداداً على جهة المجاز من حيث أشركوهم معه تعالى في التسمية بالإلهية، والعبادة صورة لا حقيقة لأنهم لم يكونوا يعبدونهم لذواتهم بل للتقرب إلى الله تعالى، وكانوا يسمون الله إله الآلهة ورب الأرباب، ومن شابه شيئاً في وصف مّا قيل‏:‏ هو مثله وشبهه ونده في ذلك الوصف دون بقية أوصافه، والنهي عن اتخاذ الأنداد بصورة الجمع هو على حسب الواقع لأنهم لم يتخذوا له تعالى نداً واحداً، وإنما جعلوا له أنداداً كثيرة، فجاء النهي على ما كانوا اتخذوه، ولذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏

أرباً واحداً أم ألف رب *** أدين إذا تقسمت الأمور

وقرأ زيد بن علي بن محمد بن السميفع‏:‏ نداً على التوحيد، وهو مفرد في سياق النهي، فالمراد به العموم، إذ ليس المعنى‏:‏ فلا تجعلوا لله نداً واحداً بل أنداداً، وهذا النهي متعلق في بالأمر قوله‏:‏ ‏{‏اعبدوا ربكم‏}‏، أي فوحدوه وأخلصوا له العبادة، لأن أصل العبادة هو التوحيد‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ متعلق بلعل، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأَطَّلِعَ في قوله‏:‏ ‏{‏لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السموات فأَطَّلِعَ إلى إله موسى‏}‏ في رواية حفص عن عاصم، أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه، انتهى كلامه‏.‏ فعلى هذا لا تكون لا ناهية بل نافية، وتجعلوا منصوب على جواب الترجي، وهو لا يجوز على مذهب البصريين، إنما ذهب إلى جواز ذلك الكوفيون، أجروا لعل مجرى هل‏.‏ فكما أن الاستفهام ينصب الفعل في جوابه فكذلك الترجي‏.‏ فهذا التخريج الذي أخرجه الزمخشري لا يجوز على مذهب البصريين، وفي كلامه تعليق لعلكم تتقون بخلقكم، ألا ترى إلى تقديره أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه‏؟‏ فلا تشبهوه بخلقه، وهو جار على ما مر من مذهبه الاعتزالي، ويجوز أن يكون متعلقاً بالذي إذا جعلته خبر مبتدأ محذوف، أي هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية، فلا تجعلوا له أنداداً‏.‏ والظاهر في هذا القول هو ما قدمناه أولاً من تعلقه بقوله‏:‏ ‏{‏اعبدوا ربكم‏}‏‏.‏

‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏‏:‏ جملة حالية، وفيها من التحريك إلى ترك الأنداد وإفراد الله بالوحدانية ما لا يخفى، أي أنتم من ذوي العلم والتمييز بين الحقائق والإدراك للطائف الأشياء والاستخراج لغوامض الدلائل، في الرتبة التي لا تليق لمن تحلى بها أن يجعل لله نداً وهو خلقه‏.‏

إذ ذاك فعل من كان أجهل العالم وأبعدهم عن الفطنة وأكثرهم تجويزاً للمستحيلات‏.‏ ومفعول تعلمون متروك لأن المقصود إثبات أنهم من أهل العلم والمعرفة‏.‏ والتمييز تخصيص العلم بشيء، قال معناه ابن قتيبة، لأنه فسر تعلمون بمعنى تعقلون، وقيل‏:‏ هو محذوف اختصاراً تقديره‏:‏ وأنتم تعلمون أنه خلق السموات وأنزل الماء، وفعل ما شرحه في هذه الآيات‏.‏ ومعنى هذا مروي عن ابن عباس وقتادة ومقاتل، أو أنتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابيكم التوراة والإنجيل‏.‏ وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس، أو أنه لا ند له، قاله مجاهد، أو أنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه، ذكره علي بن عبيد الله، أو وأنتم تعلمون أنها حجارة، قاله أبو محمد بن الخشاب، أو وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت، أو وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله كقوله‏:‏ ‏{‏هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء‏}‏ قالهما الزمخشري والمخاطب بقوله‏:‏ فلا تجعلوا ظاهره أنه للناس المأمورين باعبدوا ربكم، وقد تقدمت أقاويل السلف في ذلك‏.‏

قال ابن فورك‏:‏ ويحتمل أن يكون الخطاب للمؤمنين، المعنى‏:‏ فلا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم أن العلم هو نفي الجهل بأن الله واحد‏.‏ قال أبو محمد بن عطية، هذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا، فقد أخذ بطرف من جعل نداً، انتهى‏.‏ وقول أبي محمد يعطي أن الله أغنى الإنسان، خطأ في التركيب، لأن أعطى لا تنوب أنّ ومعمولاها مناب مفعوليها، بخلاف ظن، فإنها تنوب مناب مفعوليها، ولذلك ذكر في علم العربية‏.‏

قال بعض المفسرين‏:‏ اختص تعالى بهذه المخلوقات وهي‏:‏ الخلقة البشرية، والبنيتان الأرضية والسماوية، لأنها محل الاعتبار ومسرح الإبصار ومواطن المنافع الدنيوية والأخروية، وبها يقوم الدليل على وجود الصانع وقدرته وحكمته وحياته وإرادته، وغير ذلك من صفاته الذاتية والفعلية، وانفراده بخلقها وأحكامها، وقدم الخلقة البشرية، وإن كانت للعالم الأصغر، لما فيها من بدائع الصنعة ما لا يعبر عنه وصف لسان ولا يحيط بكنهه فكرجنان، وظهور حسن الصنعة في الأشياء اللطيفة الجرم أعظم منه في الأجرام العظام، ولأن اعتبار الإنسان بنفسه في تقلب أحواله أقرب إلى ذهنه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وفي أنفسكم أفلا تبصرون‏}‏ أو لأن العرب عادتها تقديم الأهم عندها والمعتنى به، قال‏:‏ وهو تعالى بإصلاح حال البنية البشرية أكثر اهتماماً من غيرها من المخلوقات، لأنها أشرف مخلوقاته وأكرمها عليه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد كرمنا بني آدم‏}‏ الآية، ولأنه تعالى خلق هذه الأشياء منافع لبني آدم وأعدها نعماً يمتن بها عليهم، وذكر المنعم عليه يتقدم على ذكر النعمة‏.‏

ثم إنه تعالى لما عرفهم أنه خالقهم أخبرهم أنه جعل لهم مكاناً يستقرون عليه، إذ كانت حكمته اقتضت ذلك، فيستقرون فيه جلوساً ونوماً وتصرفاً في معايشهم، وجعل منه سهلاً للقرار والزرع، ووعراً للاعتصام، وجبالاً لسكون الأرض من الاضطراب‏.‏ ثم لما منّ عليهم بالمستقر أخبرهم بجعل ما يقيهم ويظلهم، وجعله كالخيمة المضروبة عليهم، وأشهدهم فيها من غرائب الحكمة بأن أمسكها فوقهم بلا عمد ولا طنب لتهتدي عقولهم، أنها ليست مما يدخل تحت مقدور البشر، ثم نبههم على النعمة العظمى، وهي إنزال المطر الذي هو مادة الحياة وسبب اهتزاز الأرض بالنبات، وأجناس الثمرات‏.‏ وقدم ذكر الأرض على السماء، وإن كانت أعظم في القدرة وأمكن في الحكمة، وأتم في النعمة وأكبر في المقدار، لأن السقف والبنيان، فيما يعهد، لا بد له من أساس وعمد مستقر على الأرض، فبدأ بذكرها، إذ على متنها يوضع الأساس وتستقر القواعد، إذ لا ينبغي ذكر السقف أولاً قبل ذكر الأرض التي تستقر عليها قواعده، أو لأن الأرض خلقها متقدم على خلق السماء، فإنه تعالى خلق الأرض ومهد رواسيها قبل خلق السماء‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قال أئنكم لتكفرون‏}‏ إلى آخر الآيات، أو لأن ذلك من باب الترقي بذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى‏.‏

وقد تضمنت هاتان الآيتان من بدائع الصنعة، ودقائق الحكمة، وظهور البراهين، ما اقتضى تعالى أنه المنفرد بالإيجاد، المتكفل للعباد، دون غيره من الأنداد، التي لا تخلق ولا ترزق ولا لها نفع ولا ضر، ألا لله الخلق والأمر‏.‏ قال بعض أصحاب الإشارات‏:‏ لما امتن تعالى عليهم بأنه خلقهم والذين من قبهلم، ضرب لهم مثلاً يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم، وأنهم وإن كانوا متوالدين بين ذكر وأنثى، مخلوقين ‏{‏من نطفة إذا تمنى‏}‏، هو تعالى خالقهم على الحقيقة، ومصوّرهم في الأرحام كيف يشاء، ومخرجهم طفلاً، ومربيهم بما يصلحهم من غذاء وشراب ولباس، إلى غير ذلك من المنافع التي تدعو حاجتهم إليها فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الزوج، وهي أيضاً تسمى فراشاً، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها، وضرب الماء النازل من السماء مثلاً للنطفة التي تنزل من صلب الأب، وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات بالولد الذي يخرج من بطن الأم، يؤنس تعالى بذلك عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق، ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه، كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها، ومخرج أشجارها من بطن الأرض، فإذا أوضح ذلك لهم أفردوه بالإلهية، وخصوه بالعبادة، وحصلت لهم الهداية‏.‏